د. عماد علي الهلالي
كلية الهندسة قسم الهندسة المدنية
Imad Ali Al-Helaly, Faculty of Engineering, Civil Eng.
مقدمة:
تعتبر الفيزياء من أوسع العلوم البشرية وأعمقها وأكثرها ارتباطاً بالطبيعة، وقد رافقت تفكير الإنسان منذ الحضارات القديمة حيث حاول المفكرون تفسير الظواهر الطبيعية المشاهدة ومحاولة معرفة عللها وقوانينها.
وقد اختلف تعريف علم الفيزياء منذ اليونانيين وإلى العصر الحديث، ولكنها ترتبط عموماً بالظواهر الطبيعية وتفسير الكون المادي تفسيراً عقلياً. ويتداخل موضوع الفيزياء مع جميع العلوم تقريباً لا سيما الفيزياء الحديثة، ودخل منهجها في التعليل في جميع التخصصات، ومنها الهندسة المدنية التي تأثرت كثيراً في القرن التاسع عشر بتطور الفيزياء، وحالياً يتم تدريس الميكانيك (للأجسام الجاسئة والموائع) ومقاومة المواد.
كما قد انتشرت الثقافة الفيزيائية وتدخلت في لغة الثقافة والعلم اليوم حتى وصلت إلى الثقافة الشعبية ودخلت في كثير من التخصصات.
وكلما تطورت العلوم تداخلت مع بعضها لذا صار من غير الممكن عزل تخصص من التخصصات عن سواه، بل يقال في العرف العلمي أن أنفع الاختراعات نشأت من تداخل التخصصات فيما بينها[1].
وقد توسع مفهوم المدينة والمدنية (Civil) لما هو أوسع من المنشأت العمرانية، فأصبح لا ينفك عن دراسة التلوث البيئي، والنشاط الزلزالي والطقس والنشاطات البشرية بل والمظاهر الاجتماعية.
كلمات مفتاحية: الهندسة المدنية، الفيزياء
ارتباط الهندسة المدنية بالفيزياء
عُرفت الهندسة المدنية منذ الحضارات القديمة في العراق ومصر وغيرهما حيث كانت تبنى المباني الكبيرة كالمعابد والأهرامات والقصور، وكانت لها تصاميم هندسية دقيقة، كما كانت للمدن القديمة قنوات لتوزيع مياه الشرف، وجداول لصرف المياه الآسنة، وكان للأبنية القديمة ارتباط بالظروف الجوية من أجل التهوية والإضاءة والحرارة.

الشكل (1) هياكل من البناء القديم، أهرامات الجيزة (أعلى اليمين)، مبنى روماني (أعلى اليسار)، ومعابد الانكا في أمريكا الجنوبية (أسفل اليمين)، وسور الصين (أسفل اليسار).
إلا أن التغير الكبير الذي طرأ في الهندسة المدنية نتج من تطور علم الفيزياء بعد تقنين الحركة والقوة والطاقة في القرن الثامن عشر. ذلك أن وظائف الهندسة المدنية تنقسم إلى عملين: التصميم والتحليل، فالتحليل لمعرفة القوى المسلطة على المبنى والمُنشأ المصمَّم وقابلية مواد البناء المستعملة وأما التصميم فهو جعل قوى المقاومة في قبال القوى المسلَّطة لأجل صمود المنشأ، ويدخل في التحليل إمكانية التنبؤ المستقبلي بحال المنشأ وتخمين الماضي لمعرفة سبب المشاكل الهندسية.
وكان المهندس القديم في بابل ومصر وبيزنطة (الرومان) يخمّن القوى المسلطة وقوى مواد البناء تخميناً ناتجاً من الخبرة، ولم يكن يومئذ قياس رقمي لقابلية مواد البناء ولا تحليل دقيق لكيفية تسلّط الأثقال عند التفنن في التصميم، والتخمين لا تتوفر له الدقة الكافية لأن كل تجربة لمعرفة الحدود الدنيا لقابلية مواد البناء على المقاومة تقترب من خطورة انهيار المبنى.
ومن هنا نعرف أهمية تحليل القوى الطبيعية الذي قامت به الفيزياء وفائدة وضع قوانين وتعاريف محددة للكتلة والقوة والوزن والكثافة والعزوم، فقد ساعدت كثيراً في توفير حساب مسبق ودقيق لتوازن المبنى ولصمود مواد البناء يضمن السلامة من الانهيار والدقة في التصميم وعدم الإسراف في مواد البناء.
وقد تمايزت الهندسة المدنية كعلم مستقل في القرن الثامن عشر حين صاغ المهندس البريطاني جون سميتون (1724 – 1792) مصطلح الهندسة المدنية (Civil Engineering) ليشمل كل الأشياء المدنية في قبال الهندسة العسكرية، وأشرف على تصميم وتشييد بعض المباني الحديثة وتخصص في تصميم الجسور والقنوات المائية والمرافئ والمنارات كمنارة إديسون (الشكل -1)؛ لذا يلقب بـ(الأب للهندسة المدنية)، كما شكل سيمتون ومجموعة من زملائه جمعية سميتونيان للمهندسين المدنيين غير الرسمية[2].
وفي 1818م تأسست مؤسسة المهندسين المدنيين في لندن، وفي عام 1820 عُيّن توماس تيلفورد أول رئيس لها. وتم الاعتراف بها عبر ميثاق ملكي عام 1828 كمهنة رسمية، صدر من الجمعة الملكية في بريطانيا.
ولكن تصاميم الهندسة المدنية في ذلك الوقت لم تكن أكثر من رسومات معمارية وتوصيات وتخمينات تخلوا من المعادلات والأرقام الدقيقة (لاحظ الشكل -2).

الشكل (2) تصميم منارة إديسون من قبل جون سميتون.